قنشرين - سهدونا Head

 

 

الاسم :سهدونا الولادة: - الوفاة: - القرن: القرن السابع
 
 إن اسم سهدونا أو مار طوريس (تصغير للفظة الشهيد)،معروف في تاريخ كنيسة المشرق ،بسبب ما تركه من مؤلفات في الأدب الروحي .وبخصوص حياته ،قلما نجد في مؤلفاته معلومات سيرَويّه واضحة نه .إنما يذكر في كتاب ((السيرة الكاملة))إنه ابن أرملة مسيحية مؤمنة وتقيّة ،إستطاعت أن تغرس الإيمان في قلبه ،وأن تقوده إلى الحياة الديرية منذ فجر شبابه ،حيث لبس الثوب الرهباني ،وإنه استمر في التردد إليها حتى بعد ذلك : ((أمي التي كانت تكرم الله ومن أجله رذلت العالم وعدّته نفاية … كانت تقول لي دوماً :يا بنيّ خير لي أن أموت من أن أحيا ،إذا رأيتك ،لا سمح الله ،أسيرّ محبّة العالم كبقية الناس)).طبعة بيجان 11 _12 ).ثم عرف ناسكة اسمها ((شيرين))يمتدحها كثيراً (ص7)ويقول إنه كان يتردد إليها للاسترشاد وكان عمرها ثمانين سنة ((إني كنت أذهب إليها مراراً لأنال منها البركات ))(ص8 _10 ).
ولُد سهدونا في قرية هلمون أو حلمون على بعد 40 كم غربي مدينة العمادية أيام الشاه كسرى الثاني أبرويز (590 _628 )،وتلقى تعليمه الأول في دير مار ايثالاها ،في ضاحية مدينة دهوك ،وواصل تحصيله العلمي العالي في مدرسة نصيبين الشهيرة ؛ولربما كان راهباًناذرا ً،إذ نراه في دير ((بيث عابي))بين سنة615 _620 يلبس الثوب الرهباني ،من يد المؤسس يعقوب نفسه .وفي سنة629 _630 اختير أسقفاً لأبرشية (ماحوزي داريون)التابعة لمترابوليتية بيث كرماي ،ونشاهده في عداد الوفد فوق العادة الذي أرسله الفرس عام630 ،برئاسة البطريرك ايشوعياب الثاني ،لعقد معاهدة السلام مع الرومان .ولكن ما إن عاد الأسقف الجديد إلى كرسيه حتى راح يعلن جهاراً اتجاهه اللاهوتي المسيحاني ،مما أثار سخط السلطة الكنسية الرسمية التي عدّته خارجاً عن تعليمها المألوف .فعقد البطريرك (مار إمه)مجمعاً في دير شمعون بقرب السن .وقرّر خلعه ونفيه إلى الرّها ،حيث عاش زاهداً وحدانياً ،إلا أنه لم يبقَ طويلا هناك ،بل عاد إلى المنطقة ،ملبياً دعوة مؤيديه ؛وعادت الأزمة من جديد إلى الكنيسة .وحالما تبوأ ايشوعياب الثالث السدة البطريركية ،قام بحرم سهدونا ،عاداً إيّاه ((هرطوقياً))،ونفاه إلى الرها حيث قضى سني حياته في النسك والكتابة .
يذكر توما المرجي ،نقلا عن جبرائيل تورتا ،الرئيس الخامس لدير بيث عابي ،إن جبرائيل سافر بنفسه إلى الرها لأقناع سهدونا بالتراجع والعودة ولكن سدّى : ((لما طرد سهدونا الشقي من الكنيسة ،
اضطُررت أنا جبرائيل ،بغيرة نفسي المتقدة ،إلى المضي إليه إلى الرها ))(الرؤساء ص68 ).ومات نحو649 !

تآليفه :
لقد وصل إلينا ،من مؤلفات سهدونا ،كتاب واحد وخمس رسائل .أما المؤلفات الأخرى _التي يذكرها المرجي _فقد ضاعت .

1-    كتاب السيرة الكاملة
على الأرجح يعود تأليف هذا الكتاب إلى الفترة التي كان فيها سهدونا راهباً في دير ((بيث عابي))وتلمح ((السيرة الكاملة ))إلى أن عمره كان ثمانٍ وعشرين سنة لما كتبه ،بناءً على طلب رهبان (ديره أو آخرين )لإرشادهم وتوجيههم في حياة الزهد والجهاد : ((أطلب منك يا يسوع ،طبيب نفوسنا الصالح ،أن تنظر إليّ من علياء مقدسك وأن تعضدني وتخلّصني برحمتك … فها إن الشرير يأسرني بضراوة ،ولا أستطيع الدنو منك بدموعي … فأسند عجز توبتي ،وانظر من مسكنك إلى تواضع نفسي ،فها لي ثمان وعشرون سنة ملقى في مرض جسد الخطيئة الذي شفيته بجسدك)) (بيجان ص468 ).ويعكس الكتاب خبرة شخصية مستنيرة عارفة بدقائق الحياة الرهبانية من جميع أوجهها .وطروحاته تدل على تأصل الروحانية الرهبانية فيه .يقول عنه توما المرجي : ((وقد هام بالسيرة الفضلى وعكف على الحياة النسكية ..وشعر بالعذوبة التي تدرّها السيرة الفاضلة على النفس في قراراتها ،وذلك واضح للعيان من المعاني الرفيعة المتضمنة في التآليف التي وضعها في السيرة النسكية ))(الرؤساء ص61 ).ينقسم الكتاب إلى جزئين :الأول كان يضم22 فصلاً ،والثاني 14 فصلاً
(حاليا المتبقي بحسب طبعة بيجان وده هاليه:الأول5 والثاني 14 ).
يتناول الفصلان الأول والثاني السلوك المسيحي الذي ترتّبه المعمودية أو الولادة الجديدة ،لذا يُحرض على عيش الفضيلة .ويُدعم تعليمه بأمثلة مقتبسة من حياة أباء الكتاب المقدس والقديسين الأولين.
جاء الفصل الثالث والرابع بمثابة مدخل إلى السيرة الكاملةبحسب نظام الديريين المتوحدّين .أما الفصول الباقية فكّل منها يتناول فضيلة معينة أو ممارسة متميزّة ،مثل :الإيمان ،الرجاء المحبة ،نبذ العالم ،العفة ،الصوم ،الصلاة ،التوبة ،التواضع ،الطاعة ،الثبات ،الفطنة … وكل فصل من هذه الفصول يؤلف محاضرة روحية ،يعرضها بأسلوب مشوق حميمي ،مشبع بصور كتابية وبنفس صوفي آسر .يضم الكتاب إلى جانب المواضيع الرهبانية طروحات مسيحانية .فسهدونا يقول ب :
((أقنوم واحد وطبيعتين في المسيح ))وفُهم أنه خلقيدوني (!)وهذه المصطلحات تتعارض بالطبع مع القانون الرسمي المألوف في كنيسة المشرق القائل ب:طبيعتين وأقنومين في شخص واحد )).

2-الرسائل .
إلى جانب هذا الكتاب ،لسهدونا خمس رسائل ،وجهّها إلى رهبان أصدقاء ؛يتناول فيها مواضيع روحية متنوعة .عموماً يحذّر فيها الرهبان من التجوال لربما بسبب حركة المصلّين أي الغلاّة النشطين في هذه الفترة (الأولى ).ويدعوهم إلى التحفّظ في علاقاتهم مع العلمانيين (الثالثة )ويذكّرهم بأركان الحياة التصوفية (الخامسة ).ويأسف لسقوط بعضهم ،كما ويُلحق الخامسة بأقوال حكمية .

لاهوته :
1-الحياة المكرسة :
تقدّم لنا كتابات سهدونا معطيات قيّمة حول التنظيم الرهباني في كنيسة المشرق ،كما اختبره هو بنفسه في بدايات القرن السابع .ويميز نوعين من الرهبان :الديريين والمتوحدين أحد ألقاب المسيح ،(راجع بينّات أفراهاط الحكيم ).يعارض المؤلف مثال الدير أو الحياة المشتركة بمثال حياة التوحد في عيش الفضيلة والكمال ،ويرى إنه من الضروري أن يمر الراهب أولا بحياة الدير،قبل أن ينتقل إلى التوّحد ،لاختيار التناغم الخصب بين النظري والعملي Theoria /Praxis  .آنذاك يقدر أن يحقق معنى التوّحد: ((أي معنى لهذا النمط ،أي التوحد الكامل ،غير الاتحاد الكامل بالله ؟أن نكون وحدانيين يعني أن نتشبه بالله الواحد ونتبعه في كل شيء ونبقى في رفقته وحدّه ))(بيجان ص47 ).
اتجاه سهدونا ومعظم الرهبان المشارقة اتجاه ثنائي :الجسد بؤرة شر وفساد ،والروح هو العنصر الخالد الذي يجب تنقيته ،من خلال تحييد الجسد بالإماتات وتشفيفه ،في سبيل إطلاق الروح ،والحصول على روحانية عميقة (من الروح القدس)،يقول: ((إن الهواء الذي نستنشقه يتنقى لما نرذل الجسد ،ونحتقر روائحه الطيبة ،التي تجرّنا إلى الأعمال القبيحة .وعندما يتطلع (المتوحد)إلى فوق إنما ينتزع عن الجسد،ويرتفع سرياً إلى روح الله ويمتلىء رائحة روحية … وهكذا يغدو الإنسان روحياً كلاً في الكل .ويسكن في العلى مع الله ويسكن الله في عمق قلبه المتواضع ))(بيجان ص37 )،على أي حال ،يقدّم لنا سهدونا تفاصيل دقيقة عن تنظيم الحياة الرهبانية ،كما كانت قائمة في زمانه ،وبالإمكان مقارنتها مع معطيات كتاب الرؤساء لتوما المرجي وكتاب يوسف بوسنايا .فالراهب مثلاً يطيل صوم المؤمنين إلى صوم دائم ولا يتناول إلا وجبة واحدة عند الغروب ،تقوم على الخبز والماء الزلال (الرسالة الرابعة).والصلوات _الفرضية _تشمل أوقات : الفجر والغروب والليل (الرسالة الرابعة)،ويذكر ليتورجيا الأحد والتدرّج الرهباني :المبتدئون والمرشدون والتأمليون والخدم .أما الأنماط الرهبانية فهي :
1-    الديريون ،يعيشون حياة مشتركة ،أي في دير وبحسب قانون معّين .
2-     المتوحدون :إنهم على مثال المسيح الوحيد والتسمية مقتبسة من لفظة (سرياني ))أي واحد أحد وبمعنى التوحيد في كل شيء (طبعة بيجان ص47 )، يسكنون في أكواخ أو مغاور محفورة في الصخور .يأتون إلى الدير في فترات متفاوتة ((السبت والأحد)).ولا يزال جبل القوش ومنطقة دهوك وزاخو في العراق ،مملوءة بمئات القلاّيات ((الصوامع)) المنحوتة بتفنن في الصخر .ويذكر بين صنف الوحدانيين :
1-العناويم _ أي الفقراء ،يصفهم سهدونا بكونهم يقتدون بالملائكة ويسكنون أدياراً مبنية على أسمائهم (بيجان ص5 ).
2-البكّاؤون _إن الآباء المشارقة يؤكدون على الدموع كممارسة توبوية متميزة .يقول سهدونا :
((على الراهب أن يعتمد معمودية ثانية بدموع التوبة على خطاياه ،وينزع عنه العالم الذي فيه ،ويميت
الإنسان العتيق مع كل شهواته ،ويغدو غريباً عن كل المنظورات ،وإلا فهو لا يستحق أن يسلك في هذا المضمار ))(بيجان ص15 ).
3-الغرباء ،ويصفهم سهدونا بأنهم ((غرباء عن العالم ومتحدون بالله ))_(بيجان ص13 ).

2-روحانيته :
مفهوم الإنسان :في نظر سهدونا ،يقوم على كونه مخلوقاً على صورة الله ،وهي صورة ثابتة غير قابلة للتغيير .وينبغي أن تحاط بالاحترام والتقدير في حين المثال سرياني ))يقوم على التشبه الخلقي أي التخلّق بأخلاق الله ،يقول : ((لتكن محبتنا للجميع فيّاضة للأخيار والأشرار على مثال الله الذي يُنزل مطره على الأبرار والأثمة (متى5/45 )،فلا نحبنّ الأقرباء ونكره الأعداء كسنّة ضيقة ،ولا نحبنّ الذين يحبوننا ونهمل الباقين ..بل لنبرهن عن محبتنا للجميع ،ونكرم صورة الله فيهم )).ويدعو إلى الثقة الكاملة بالله المهتم بالخليقة وبالإنسان الذي هو صورته ومثاله ((كم بالاحرى (يهتم بكم)أنتم المخلوقون على صورته الحية ومثاله الناطق )).في نظر سهدونا ،كما هي الحال عند يعقوب السروجي ،تكون الصورة ثابتة لا يمكن محوها ،إما المثال فهو متحرك ،ينمو أو يذبل بقدر ما يعيش الخير أو الشر .هذا الطباق لم يقتبسه المؤلف من ثنائية أفلاطون عالم المثل وعالم الحواس ،بل نابع من ثنائية بولس الرسول :الجسد والروح .في نظره ،إن ما يرثه البشر عن الأجداد ،هو بالضبط جرح التقلّبات الذي يجعل كلّ جيل يجدد بدوره خطيئة آدم ؛ويكون بالتالي قد استحق حكم الموت ،أي الطرد من الفردوس .يقول: ((ليحب كل إنسان التوبة ،هذا الدواء الذي يحتاجه كل أبناء آدم ،لأنه سرى إلى الجميع جرح الخطيئة ومعه حكم الموت الذي استحقه ؛لأن الجميع في كل الأجيال يخطأون ولو أن خطيئتهم لا تشبه معصية الشريعة )).
لا يتكلم سهدونا عن الأهواء إلا عابراً ،ولكنه يميّز بين أهواء الجسد وشهوات النفس : ((أي هوى جسدي شرير يمكن أن يسري في التائب الصادق ؟إن هوى الجنس مع كل ما يرافقه قد انطفأ في جسده المعذّب والمنّهك بجهاد التوبة .كما إنه لا يمكن أن يشوشه الهوى من خلال النظر ،فهو لا يقدر أن يشبعه من مشاهدة الناس بسبب خجله العفيف … كذلك لا يتشوش من الداخل فالشهوة قد ماتت فيه بسبب التعب ،وأحلامه زالت بسبب الخوف النابع من التفكير بالدينونة )).
إن العنصر الأساسي الذي يُغذي هذه الشهوات هو الخيرات المادية .واغراءات المائدة واغراءات الجسد التي تلج إلى الفرد من خلال الذاكرة والخيال : ((كثيرون هم الذين يهتمّون بجمع مواد لحياتهم وتكديس الأشياء فوق بعضها البعض وخزنها ،معتقدين أن ذلك أمر اعتيادي ؛إلا أن جمع المواد الصغيرة أكثر من الحاجة ،هو _كما أظن _دليل على الجشع والمحبة المفرطة للأمور الزائلة … )) ليس للشهوة قيمة خلقية ،إلا حينما ترتبط بالإرادة ،آنذاك تصبح رذيلة أو فضيلة ، أما إذا كانت عفوية أي غير واعية فلا قيمة لها : ((فلنجتهدّنّ إذن في الثبات على الصوم ،كما علّمنا محيينا ،بدون أن نترك الشهوة تستعبدنا .ولما نكون متألمين جداً من الجوع يهون علينا التغلّب على الشهوة ونتحمل جوع الجسد لما نغذّيه حسب حاجته من دون هوى شهواني .أسمي الشهوة عندما يرخي الإنسان العنان للأفكار الشريرة ،أو يتيه في تمنيات المتعة )).
من كل ما سبق نستنتج أنّ روحانية سهدونا تقوم على طباق بولس ،أي الإنسانين ((الخارجي والداخلي ))،وإن الممارسات التي يقوم بها الراهب من صلاة وزهد وتضحية وتوبة ومحاربة الشهوات ليس لها إلا قيمة نسبية ،فهي تعدّ الإنسان الداخلي لتنفتح فيه ((ثمار الروح ))أي الفضائل الكاملة :
الإيمان والرجاء والمحبة (طالع الفصل الثاني من الجزء الثاني من السيرة الكاملة والرسالة الخامسة ).
والمحبة تؤمن حضور الثالوث الأقدس في النفس ،آنذاك يكون قد وصل حقيقة إلى ذروة الكمال .لذلك يتكلم سهدونا عن ارتقاء الراهب إلى الاتحاد الصوفي (بالسريانية رازانايا ،أي التوغّل في معرفة سر _حقيقة _الله )ويبتعد بالتالي عن مفهوم أفغريوس البنطي (Theoria)  .ويعطي للقلب الأولوية على العقل أو أقله بينهما تعارض .ولما يكون القلب مستنيراً بالمعرفة يتكثف الحب بدوره .إن هذا الارتقاء غير المنقطع يرفع النفس إلى الله ،ويحصل الراهب بالتالي ،على السكينة (شليا )،ويصل الحبّ إلى هدفه ،ويستحيل التعبير عنه ،وتبدأ الرؤية تنجلي وتتنقى حالما تنسكب في النور الآلهي وينكشف وجهه البهي : ((لا يسلّم الله ذاته إلا إلى القلب الطاهر ،والقلب الطاهر هو وحده قادر على مشاهدة الله من خلال الإيمان ))؛و((إن حكمة الكاملين الصوفية (السرية _رازانيتا)تقوم على سر الله ،ولا يستطيع غريبٌ ما أن يقترب منه : ((إن سرّي لي))يقول الرب،((إن السر لي ،إن السر لي ولبني بيتي ))(اشعيا 24 _16 ).إن الذي يدخل إلي بيت الله (بيتايوثا _حميمية )وليس نقيا بما يكفي ،ليغسل ذاته بالنقاء ،حتى يغدو نيراً برؤية الله وسماع كلماته الإيمانية .وليقف على سفح الجبل لأنه غير قادر على استيعاب كل الكلام على الله ،وليحافظ على الرؤية ولو من بعيد .فإنه يقدر أن يستقبل قبساً من نور مجده ،وأن يسمع صوته من بعيد ،وليتهذب تماماً بقرب من تسلق جبل الإيمان ووصل إلى الله بفضل نقاوته العظيمة ،وأن يستتر معه في العالم من خلال الغمامة إلى أن يشرق عليه النور .وعندما يتهذب يقدر أن يقود الآخرين إلى هذا الاختبار )).
((ويكون قلبهم قد حصل على السلام الدائم في عمق الخلوة في الصحراء حيث يصعب أن يقبلوا أقلّ شويش ،وحتى صوت العصفور الطائر لا يقدر أن يسرقهم سكينتهم .إنهم يتأملّون من دون انقطاع في الأمور الآلهية … لذا يليق أن يفيض عليهم الرب السكينة )).

آراؤه اللاهوتية :
إن الفصل المخصص للإيمان ،من كتاب السيرة الكاملة ،بحث منهجي منّسق ،نادراً ما نجده عند آبائنا المشرقيين .ويتمتع الكاتب بشفافية وروحية عميقتين .فهو لا يتهم أحداً ولا يتهجم على أحد ،ولا يذكر اسم أحد بأنه هرطوقي ،بل ما يعرضه ،كما يقول ،هو إيمان الكنيسة المقدسة المسلم إليها من الرب ،أو الذي نقله الكتاب المقدس والرسل والآباء .

أ_ثالوثه :
شروحاته مفيدة لمعرفة تاريخ اللاهوت المشرقي .تعليمه حول الثالوث ثابت ،هو نفسه المتناقل في الكنائس كافة .وجود الله أمر ثابت وكذلك أقانيمه وصفاته وأفعاله .ومعرفته فطرية في الإنسان .إنها في ضميره ((ترعيثا)).فكل الناس يؤمنون بوجوده وهذا من الناموس الطبيعي ((ناموساً كيانايا)).
ولكن المعرفة الحقّ تأتينا من الوحي ،الكتاب المقدس .يعتقد سهدونا أنّ وجود الله حقيقة مسلم بها ولا يمكن إلا قبولها من دون نقاش أو فحص ،شأنه في ذلك شأن المشارقة في حسّهم العميق لسر الله وسموه .فيؤكد أنه : ((ليس في وسعنا سوى أن نؤمن بوجوده ،وبوجوده الجوهري وباسمه الذي هو منذ الأزل)).
أقانيم الثالوث متساوية وغير منقسمة وهي :الآب والابن والروح القدس ((يبقون متحّدين من دون فصل ،ولكن ليس من دون تمييز ولا يحصرهم شيء … ياللعجب العجاب ،إننا نؤمن بالله الواحد الأحد ،ونعترف في الوقت نفسه بأنه ثالوث ،من دون أن نزيل الوحدانية ،كما أننا باعترافنا بالوحدانية لا نلاشي الثالوث .إن وجود آلة واحد لا يعني وجود أقنوم واحد ،كما أن وجود ثلاثة أقانيم لا يؤدي إلى وجود ثلاثة آلهة .إن الطبيعة الآلهية واحدة ومتميزة … وليس من حقنا أن نفحص لماذا هي هكذا ،لأن موضوع الله لا يُدَرك …).وفي الصفحة نفسها يستشهد بمثل الشمس المألوف :القرص والحرارة والنور ،ثلاث حقائق متميزة لكنها شمس واحدة .
وكبقية الشرقيين ،يرى سهدونا أن الله الآب هو مصدر الابن والروح ،وإن الروح القدس ينبثق من الآب وليس كما نجده لدى الآباء الغربيين ((ينبثق من الآب والابن )).يقول: ((إن الآب موجود من دون بداية وعلّة .إنه الوالد _المصدر _منذ الأزل ؛والابن مولود منه بالجوهر ،وكذلك الروح القدس منبثق منه منذ الأبد .أنّ الآب غير مولود وغير منبثق لأنه المصدر .وإن الابن لا يلد ولا ينبثق لأنه مولود ،وإن الروح القدس ينبثق فقط وليس والداً ولا مولوداً وهذا لا يعني وجود فاصل زمني بين هذه العمليات الآلهية ،كونها عملية أزلية .

ب_مسيحانيته :
تختلف مسيحانية سهدونا عن التعليم الرسمي المألوف في كنيسته ،ولكنه يبقى في الخط الكتابي والانطاكي ،أي الخط التاريخي التصاعدي فالمسيح هو ((كلمة الله وصورته وابنه الوحيد ،وهو كامل في كل شيء مثل الآب والروح القدس .لاشى نفسَه حباً بأبيه ومحبةً بنا ،آخذاً من جنسنا صورة العبد ،أي طبيعة كاملة ، (كيانا مشملانا ))،مثل طبيعتنا في كل شيء ما عدا الخطيئة .وجُبلت من الروح القدس ،بشكل عجيب ،ومن مريم البتول ومن دون زرع رجل .وسكن فيها بالاتحاد منذ البشارة ؛كما في هيكل ممجد لسيادته ،وتربّى بحسب نظام الطبيعة _ما عدا الزواج _في الرحم كما في خارجه ،وكان ينمو بالقامة والحكمة والنعمة أمام الله وأمام البشر .والطبيعة البشرية هذه اتحد بها الله الكلمة منذ تكوينها وإلى الأبد وبشكل سام .ومعها صار أقنوماً واحداً في الاتحاد العجيب الذي لا يوصف)).
يستعمل هنا سهدونا لفظة ((كيانا))بمعنى الطبيعة الفردية العينية ،عكس ما هو معتاد في كنيسة المشرق حيث ((كيانا))تعني طبيعة مجرّدة .ولديه يصبح الأقنوم مرادفاً للشخص . إن شخص ((فرصوفا))الابن واحد وليس اثنين ،إنه اثنان من حيث الطبيعة :الآلهية والبشرية ،لكنه ابن واحد .هناك طبيعتان متميزتان من حيث الخواص ولكن الشخص هو واحد ومتساو في البنّوة ولو أنه متميز بالطبيعة .إنه موجود في كل منهما بواسطة الاتحاد من دون أن ينقسم إلى اثنين )).

سهدونا يتكلم عن الاتحاد الأقنومي وعن المشاركة في الخواص من دون أيّ حرج ،ولو ليس بنفس المستوى : ((إن اتحاد الله والإنسان ،اتحاد عظيم وعجيب ،ولهذا يقال إن كل طبيعة تشترك في خواص الأخرى من دون أن تفقد هي خواصها الذاتية أو تتغير .فالآلهي يُنسب إلى البشري وبالعكس ،بفضل
الاتحاد … إن ابن الله وكلمة الله يدعى ابن البشر بسبب الطبيعة البشرية المأخوذة من جنسنا …
وشخص المسيح الواحد هو نفسه ابن الله وابن الإنسان ،والطبيعتان الالهية والبشرية كاملتان ومتحدتان في شخص الابن الواحد وتحافظان على خواصهما ،من دون فصل ولا ذوبان ،منذ البشارة وإلى الأبد .هكذا يُنسب إلى الشخص الواحد _في الاتحاد _يسوع المسيح ابن الله _الألم والضعف اللذين يخصان الطبيعة الجسدية المولودة من مريم ،مثلما تُنسب إليه المعجزات والأفعال السامية التي تخصّ كلمة الله المولود من الآب .
وينهي شرحه قائلاً : ((إن شخص المسيح هذا يُعرف بأنه واحد في الاتحاد وليس جوهراً مركباً من طبيعتين … إنه شخص أقنومي للطبيعتين وليس شخصاً أدبياً ..مثل الصورة والسفير .وبالنسبة إلى ربنا يسوع المسيح ليس هكذا ،إنما هو حقيقة بطبيعتين ،بهما يظهر ويتجلّى ،وهما قريبتان ومتحدتان في الشخص الأقنومي للابن .ويدعم براهينه باستشهادات من الكتاب المقدس  ويختم بأن هذا هو إيمان الكنيسة المقدسة .

نصوص مختارة
المحبّة المطلقة تجعل الإنسان هيكلاً للثالوث 
محبّة الله
يَجمُل بالمؤمنين الصادقين المعتمدين على رجائهم بالله ،الذين ينتظرون خيراته ،وتتوق قلوبهم إليه ،ويغموهم الروح ،أن يتمنطقوا بمحبة الله كثيراً .بها يرتفع ويتدرّج بناءُ قداستهم المجيد ،وكمرجانة متعددة الجمال يتلألأ منظُرها .بها يُشرق ويُشّع إكليل إيمانهم الذهبي الخالص .إنها كمالُ جمال مخافة الله وطريق البلوغ إلى ذروة الكمال العظيم في القداسة .فيها يجد كلُ الناموس كماله وتمامه .وكلُ مسيرة القداسة بها تَبلغ كمالها .كذلك الإيمان والرجاء بها يُحفظان ويثبتان .إنها أعظم منهما.(المحبة) مزيّنة بمواهب الله المتعددة وهي أولها وإليها تصبو ،وبها تجتمع ،وبواسطتها يتحول الإنسان مسكناً للثالوث .بها يتّحد الإنسان بالله ويندمج فيه ،ولا يكون له إرادة سوى إرادة الله .المحبة تفوق كلّ أعمال الخير وكلّ مواهب الله .وبدونها يُعد كل شيء باطلاً .على هذه المحبة يشهد الطوباوي بولس قائلاً: ((تشوقوا إلى المواهب العظمى ،وإني أدلّكم على أفضل الطرق ))(1 قور 12 _13 ).تُرى ما هو هذا السبيل الأفضل ؟إنه المحبة المطلقة .من دونها يعدّ التكلم بلغات الناس والملائكة وكل الحكمة خَرساً ،ولا تنفع موهبة النبوءة ومعرفة كل أسرار الله الخفيّة ،ولا الإيمان العظيم ناقل الجبال ،ولا أعمال الرحمة ،وتفريق الأموال على الفقراء تجدي نفعاً (1 قور1 :8 _13 ).
وماذا أقول بعد ؟حتى ولا درجة الاستشهاد العظيم والمجيد ،ولا إحراق الجسد بالنار ينفع شيئاً من دون المحبة .المحبة حليمة مترفّقة ،لا تحزنُ في الشدّة ،ولا تخاصمُ الذين يجابهونها ،إنما تصبر على كل شيء ،وتتحمل كل شيء بطول اناة ،ولا تحسد ولا تفكر سوءاً بالخيرات التي يملكها الآخرون ،ولا ترتبك أو تخاف ممّا يحدث لها مصادفة ولا تتعجرف جهلاً أو تتكبر من دون إدراك بما تملكه ،ولا تسعى إلى فعل ما هو مخز ولا تبحث عمّا هو لها .(المحبة )لا تعرفُ الحسد ولا الغضب باطلاً ،ولا تفكر سوءاً ،وتتجنّبُ كل فرح بالأثم ،وغريبةٌ عن كل أفعال الخطيئة ،بل تفرح بالحق ،وتتنعم وتبتهج بالبرّ الصادق وتُسّر ومن أجله تتحمّل كلّ شيء ،وترجو كلّ شيء .المحبة تصدق كل شيء ،وتصبر على كل شيء ،ولا تزول أبداً ،ولا تسقط من درجتها الحقيقية أبداً (1 قور13 :4 _9 ).

هذا كلّه تفعله محبة الله في الذين يقتنونه .ويتمّ فيهم كل ما هو جميل وينال كماله كما قال الرسول .
بإيجاز إنه (الله)يفيض عليهم كلّ خيراته ،فهو على كل شيء قدير ،وهو الكائن الذي يملك كلّ كمال الوصايا من دون حد وحيثما توجد محبة الله فكل الوصايا ترافقها مجتمعة ،لأنّ من يحب الله لا يمكنه مخالفة إحدى الوصايا أو نسخها .لأنّ مصداقية محبته تظهر في تطبيق وصاياه كما قال : ((من يحبّني يحفظ وصاياي ((وأيضاً))إن كنتم تحبونني ،حفظتم وصاياي )).(يوحنا 14/15 )،وأيضاً من تلقّى وصاياي وحفظها ،فذاك يحبّني والذي يحبني يُحبّه أبي وأنا أحبه أيضاً ،وأظهر له ذاتي))(يوحنا 14/21) ((ونأتي إليه ونجعل عنده مقامنا))(يوحنا14/23 ).آرأيت كيف أنّ كل القداسة ،التي تأتي من حفظ الوصايا ،تكتمل بالمحبة ؟وكيف أن من له المحبة ،يصبح هيكلاً للثالوث الأقدس ،ويتمتع بالمشاهدة الإلهية بشكل خفي ؟
فطوبى لمن هو جديرٌ بهذه المشاهدة ،وجدير بأن تقيم فيه المحبة !طوبى لمن إرتاحت الألوهة
في داخله!إنه حقاً يسكن منذ الآن في ملكوت السموات!وما الملكوت ،إن لم يكن السعادة مع الله ؟
وما السعادة مع الله ،إن لم تكن الإبتهاج والفرح بحبه ،والنظر المنصبّ دوماً عليه،وارتكاض النفس إليه؟كم هو صحيح كلام الرب : ((إن ملكوت الله هو في داخلكم))؟(لوقا17/21 ).لأنّ من يملك محبة الله في ذاته ،يملك الله عينه .فكيف لا يملك الملكوت في داخله ؟ما أعظم الإنسان الذي له المحبة ،
والذي أسكن الله _الذي هو المحبة _في قلبه !(راجع1 يوحنا164 )،وكم هو عجيب هذا القلب الصغير المحدود الذي أوى روحياً ذاك الذي لا تستطيع السماء والأرض احتواءه !يا عين القلب المستنيرة (أفسس 1/18 )التي بنقاوتها ترى بوضوح من يستر السيرافيم وجههم أمام رؤيته (اشعيا6/2).
((من يُحبني يحبه أبي ،وأنا أيضاً أحبه وأظُهر له نفسي ،ونأتي إليه ونجعل عنده مقامنا ))(يوحنا14/23 )أين إذن يحب الله إن لم يَكُن في القلب ؟وأين سيظهر نفسه إن لم يكن هناك؟فقد قيل ((طوبى لأنقياء القلوب فإنهم سيُعاينون الله ))(متى5/8 )،أين إذا يسكن الله إن لم يكن داخل القلب؟فقد كُتب أيضاً :
((سأسكن فيهم وأسير بهم))(راجع2 قورنثيه 6/16 ؛تثنية الاشتراع27 :11 _12 ؛الأخبار1413 ).أرايت كم هو واسع القلب النقي والمفعم بالمحبة ،بما أنّ الله يستطيع السير فيه حقا !(السيرة الكاملة ص 188 _192 ).

محبّة الأخوة :
لنبتعدنّ أذن عن الإقتداء بالشيطان ،ولنتشبّه بالله كأبناء محبّين ،ولنحب بعضنا بعضاً بنيّةٍ صافية ،وليس كحُبّنا لأنفسنا ،بل كما يوصي ((العهد الجديد))أن نحب مثلما أحب المسيح ،وكما أوصى عهده الجديد: ((وصية جديدة أعطيكم ))وما هي وصيتك هذه يا سيد؟))وصيّتي هي أن تحبوا بعضكم بعضا ))(يوحنا13/34 ).يا سيد كيف يظهر كمال هذه المحبة التي لا شبيه لها؟((عندما يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه))(يوحنا15/13 ).
تُرى ما أعظم وصية المحبة الجديدة التي تتطلب الإقتداء به(المسيح)هو الذي أحبنا كأصدقاء ،وبذل نفسه من أجلنا ،في حين نحن بسبب أعمالنا الشريرة لا نسلك طريقه!
هكذا علينا أن نحبّ الآخرين ،وأن يبذل كلُ إنسان نفسه في سبيل رفيقه ،بهذا نُظهر صداقتنا الحقيقية له ويعرفنا الجميع أننا تلاميذه ،أي عندما نُطبّق جميع ما يوصينا به ونحب بعضنا البعض وفق وصيّته :
((أنتم أحبائي إن فعلتم جميع ما أوصيتكم به))(يوحنا 1415 )،((وبهذا يعلم الجميع أنكم تلاميذي إن أحببتم الواحد الآخر))(يوحنا 13/35 ).إن من يقول إني أحب الله ولا يحب أخاه ،كاذب لا حقَ فيه ((لأنّ الذي لا يحب أخاه وهو يراه ،كيف يستطيع أن يحب الله وهو لا يراه ؟))(1 يوحنا4 :20 _21)
لنحبّن إذن الإخوة حتى يشرق فينا نور محبة الله الكاملة ،فينقشع عنّا الظلام والبغض الداكن ،ونثبت في محبة وصداقة بعضنا البعض .في الحقيقة إن الحسد والبغض هما ظلام كما كُتب : ((من زَعَم إنه في النور وهو لا يحب أخاه ،لم يخرج من الظلام .من أحب أخاه ،كان مقيماً في النور ،ولا خوف عليه من العثار .أما من لا يحب أخاه فهو في الظلام ،يخبط في الظلام ،لا يدري إلى أين يسير ، لأن الظلام أعمى عينيه (1يوحنا 2 :9 _11 ).(السيرة الكاملة ص 208 _209 ).

 
من موسوعة قنشرين للآباء والقديسين
Print
Send to friend
Edit
Back
طباعة
أرسل لصديق
تعديل
عودة
 

 

 
 
         
         
         
   

Qenshrin.com
Qenshrin.net
All Right reserved @ Qenshrin 2003-2015